Journée Homs

Par défaut

لماذا يحتفل   اهل حمص بيوم الأربعاء

هذه المقالة عبارة عن محاضرة ألقاها المهندس نهاد منير سمعان في المركز الثقافي

بحمص في 6 آذار 2001

السادة الحضور أيها الأصدقاء مسا الخير

في البداية شكراً لجمعية العاديات التي أتاحت لي فرصةَ الاجتماع بكم اليوم ، والشكرُ أيضاً للمسؤولين في المركز الثقافي الذين تعاونوا معنا في تأمينِ هذا المكانِ وأهلاً وسهلاً بكم .

كنتُ قد كتبتُ في 12 تموز من عام 1996 في جريدةِ حمصَ العريقةِ، مقالةً صغيرةً بعنوان : (حمص ويوم الأربعاء) وقد لاقت هذه المقالة في حينها اهتماماً واسعاً في الأوساطِ الحمصيةِ والثقافيةِ بشكلٍ عام، حتى إنه قد صدرت تعليقاتٌ ظريفةٌ عليها في بعض الصحف العربية والخليجية، وتندَّرَ وردَّدَ الكثيرُ من الحمصيين وغيرِهِم بعضَ ما وردَ فيها في مجالسهم الخاصة والمحافلِ الثقافيةِ الجادة . وقد طالبني بعض أصدقائي عدة مراتٍ بكتابة مقالٍ آخر أكثر وسعاً، أشرحُ فيه بعضَ ما كان غامضاً في مقالتي السابقة ، وأزيدُ وأتعمقُ في البحثِ عساه يظهرُ لنا من خلاله

أصلُ وسببُ هذه الشائعةِ الملتصقةِ بأهلِ حمصَ، وما يمكن أن يكونَ سبباً في تحديد يومِ الأربعاء الذي يقال إن (الجدبة) تتجلى فيه بقوة ووضوح. ( أوردت الدومري مؤخراً في تشرين الثاني عدد 39 أن الإشاعة وصلت إلى أوربا فنشرت تحقيقاً طريفاً حول الأربعاء والجدبة الحمصية لكنه لم يكن علمياً بالمعنى الدقيق للكلمة ولم يكن الحمصيون محظوظين فيه. )

يا ترى ألم يحنِ الوقت أن يقومَ أحدُنا نحن الحمصيين بدراسة ما ، وبشيء من العلمية حول جذور هذا الموضوع ..؟ في اعتقادي إن البحثَ في مشكلةٍ خاصةٍ من هذا النوع يجب أن يتمَّ داخل البيتِ (أي هنا في حمص) ليكونَ بحثاً صادقاً موضوعياً .. فلا يحصلُ تشنجٌ ولا توترٌ بين الباحثين ، ولا يُتَّهم أحدُ منهم بالنميمةِ أو الدسِ أو التهكمِ … إنها مشكلتنا نحن … والأفضل أن يتمَّ بحثُها من قِبَلنا (هذا إذا اعتبرناها مشكلة ) …. قد يقول البعض لماذا .؟ وما هي الفائدةُ التي يمكنُ أن تُجنى من بحثٍ كهذا .. ؟ .. في الحقيقة ليس لديَّ جوابٌ مقنع .. إذ ليس في كل ما يفعله

الإنسان فائدةٌ ماديةٌ أكيدة .. إنني في هذا البحث كمن يبحث عن اسمِ جده السابع فقط للمعرفة .. ولا لشيء آخر .. لكنني متأكدٌ بأن فضولنا لمعرفةِ جذورِ هذه المسألةِ يجمعُنا معاً هنا في هذا المكان .. ولستُ بحاجةٍ لتبرير ما نشعر به من فضول فإني أعتقد بأنه طبيعيٌ .. بل إنه من غيرِ الطبيعي انعدامُه في نفوسِ البعض ….

لقد اتبعتُ في بحثي هذا طريقة بسيطة وجدتها مجدية في هذا المجال ، مجال البحث عن جذور هذه الشائعة المتفاقمة . فقد بدأت التنقيب في كل ما وصلت إليه يداي من كتب التاريخ ابتداءً من وقتنا الحاضر متراجعاً بالتدريج إلى الوراء ، إلى القرون الماضية مدوناً كل ما كتب عن حمص وأهلها ( إذا كان الموضوع يتعلق بالجدبة … ) وكنت عندما أجد نصاً أو تعليقاً أورده أحد المؤرخين يشير فيه إلى لوثة في عقول الحمصيين أزداد اقتناعاً بأني يجب أن أذهب إلى ما هو أبعد وأقدم.. فالقضية ككل القضايا لا بد أن يكون لها أساس مقنع علمياً كان أم روحياً … فكما قلت سابقاً لا بد

أن يكون لهذا الدخان الكثيف نار في مكان ما مخبأة بين صفحات التاريخ ..

لماذا أصر المؤرخون طيلة أربعة عشر قرناً على وصف الحمصيين بهذا الشكل .. ما هو الدافع الذي جعلهم يتفقون على ذلك جميعاً وكل واحد منهم ينتمي إلى بلد .. ويبعد عن الآخر مئات السنين …؟

هل أجمع الجميع بدون وجه حق على التحامل على أهل هذه المدينة الوادعة.. .. .؟ أم بالفعل هناك بلادةٌ في تفكير الحمصيين يستطيع أن يلاحظها كل رحالة أو زائر مر بها وعاشر أهلها ..؟

وإذا كان هناك فعلاً شيء من هذا القبيل فما هو السبب يا ترى .. ؟ هل هو الهواء العاصف شبه الدائم في حمص الذي يشعر المرء بعد التعرض له مدة طويلة بالدوخة أو الروجة إذا صح التعبير . ؟… أم هو نوع التربة المميزة في حمص التي تنفر منها العقارب ؟.. (وبهذه المناسبة لماذا تنفر العقارب من حمص ؟   لقد كتب الكثير من المؤرخين عن ميزة حمص هذه وتربتها الشافية من لدغة العقرب أيضاً وإني أرى أنه من المفيد أن يلقى هذا الموضوع اهتمام الباحثين مستقبلاً ..

واليهود أيضاً لا وجود لهم في حمص وهذه ميزة إضافية لهذه البلدة الشهيرة فقد نفر اليهود من حمص كالعقارب ولم يذكر التاريخ يوماً أن يهودياً استطاع أن يكمل حياته هنا في حمص … إلا متستراً وهذا أيضاً يجب أن يلقى اهتمام الباحثين … نعود إلى موضوعنا الرئيسي .. ) لا بد أن يكون هناك جواب . فأنا مقتنع بأن حمص يقطنها شعب طيب الخلق ، كريم النفس عطوف على الفقراء ، لا تظهر على أغنيائه أو من وصل إلى سدة الحكم من أبنائه مظاهر الكبرياء ، مهما علت مراتبهم أو ازدادت أموالهم … والحمصيون هم أكثر الناس محبة للدراويش والفقراء ، ويحترمون ويحسنون بسخاء وبدون

ملل إلى من هم على ( باب الله ) كما نقول في العامية وما أكثرهم في حمص أليست حمص مشهورة بأنها بلد الدراويش والمبروكين ، بل إن اسمها عند عامة الحمصيين( بلد خْطَيّ ) .. وكلمة خْطَيّ تستخدم لاستدرار الشفقة والعطف على شخص ما مسكين أو مقهور … ولكن تعبير ( بلد خْطَيّ ) يدل بكل تأكيد بأن مشاعر العطف والشفقة على محتاجيها هي القاسم المشترك بين أبناء هذه البلدة . وكثيراً ما يواسي الحمصي نفسه بعد إحسانه المبالغ فيه فيقول ( يالله ألسنا من بلد خْطَيّ ) وفي هذا تأكيد لانتمائة وحمصيته ….

وحتى يكون بحثنا هذا مشوقاً رأيت أن أشارككم المسار الذي سلكته فيه … فأعود وأذكر بما قيل فينا من قبل المؤرخين منطلقاً من وقتنا الحاضر متدرجاً معكم إلى الماضي علني في هذا أستطيع إقناعكم بالنتيجة التي توصلت إليها

في الوقت الحاضر أو حتى في القرن العشرين بكامله ، لا أرى داعياً لإضاعة الوقت في جرد ما يقال فينا ففي هذا استحالة ، إذ كل يوم نسمع عدداً لا يحصى من النكات التي تشير إلى الجدبة الحمصية ، منها الجارح ومنها الظريف ومنها ما قد يكون قد حصل فعلاٌ في مكان آخر ، وهناك إثبات على ذلك ، لكن نسبة الحدث إلى حمص أو أحد الحمصيين ، يساعد الراوي في جعل الابتسامة ترتسم على أفواه المستمعين بصورة مسبقة أي قبل إتمام الرواية. وعندما يبدأ الراوي بنسبة قصته إلى الحمصيين ، فإنه يشير في هذا بأن ما سيقوله نكتة أو طرفة .. وكذلك فإن هذه النسبة تحدد أيضاً نوع

الجواب إذا كان السؤال أحجية أو حزورة بايخة .

( إذا القرن العشرين بلاه ) ولنبدأ معاً من القرن التاسع عشر .. القرن الماضي وتحديداً من عند قدوم إبراهيم باشا إلى حمص ، فنجد الدكتور ميخائيل مشاقة الدمشقي الذي رافق إبراهيم باشا في حملته علينا .. يقول في حمص وأهلها :

( مدينة حمص ، جيدة التربة ، معتدلة الهواء ، متسعة الأرجاء ، تحيط بها قرى كثيرة ولكن أكثرها خراب نظراً لاعتداء عرب البادية عليها . وأهالي حمص نحو عشرين ألف نسمة ثلثهم نصارى والباقي من المسلمين . ولم أر فيها نصرانياً غير مولع بالسكر . وكثيرون منهم يكتبون خطاً جميلاً . وقد خرج منها أفراد مشهورون بالعقل والذكاء كون حال عامتهم تغلب عليهم السذاجة . وقد حكي لي قصص كثيرة عن سذاجتهم لا يسعني بسطها إذ قد يكون مبالغاً فيها . إنما أذكر ما شاهدته بعيني . وهو أنه في اليوم الثاني من دخولنا حمص عُرض للأمير إبراهيم باشا أن ناحية بابا عمرو فيها قتلى

وجرحى من أولاد البلد يراد الكشف عنهم . فسألني الباشا للتحقيق في الأمر . فوجدتهم ثمانية رجال ، أربعة منهم قتلى وأربعة منهم جرحى ، فسألت الجرحى عما أصابهم ؟ فقالوا إننا أتينا هنا للفرجة على مكان العسكر ، فوجدنا كرة محشوة وفتيلها ظاهر ، فأردنا أن نرى كيف تصعد وتهبط ، فأشعلنا الفتيل ، ووقفنا حولها ننتظر صعودها ، ولا نعلم ما أعاقها من الصعود ثم انفجرت عندما اقتربنا منها وأصابنا ما تراه .!. فأذنت بدفن الموتى وعالجت المرضى ورجعت . ثم عرضت واقعة الحال لإبراهيم باشا فقال : اكتبها عندك لكي يقف منها المعلم بطرس كرامة على درجة ذكاء أهل بلده …

وفي ما بعد كنت أتكلم مع عبود البحري بك ( وهو حمصي أيضاً .. منزله أصبح كنيسة الكاثوليك الحالية ) فسألني عما رأيته في حمص فمدحت هواءها وماءها ، فقال : ما قولك في أهاليها ؟ قلت : إني وجدت لهم دعوى على سعادتك وعلى المعلم بطرس كرامة ، فقال مستغرباً : وما هي ؟ قلت : إنكما سلبتماهم نصيبهم من العقل والذكاء فقال : وكيف ذلك ؟ فقصصت عليه قصة الكرة مما جعله يستلقي على ظهره من الضحك . ( نشرتها المقتطف المصرية سنة 30 ص 808 وأخذها منير الخوري عيسى الأسعد ج 2 ص 387 )

وحتى لا نطيل لنذهب مباشرة إلى القرن الرابع عشر.(500 سنة دفعة واحدة ) فنجد المؤرخ شيخ الربوة (نسبة إلى قرية قرب دمشق ) وهو شمس الدين الدمشقي الذي كتب حوالي 1300 م في كتابه (نخبة الدهر في عجائب البر والبحر ).. قال: حمص مدينة قديمة .. ماؤها وهواؤها صحيح ومن حسن بناء حمص أنه لا يوجد فيها دار إلا وتحتها مغارة أو مغارتان وماء ينبع للشرب. وهي مدينة فوق مدينة. وأهل مدينة حمص يوصف عامتهم بقلة العقل ويحكى عن سوقتهم حكايات تشبه الخرافات . (أخذها منير الخوري عيسى ج 2 ص 261 عن جولة أثرية لوصفي ذكريا ص 347 )

إذاً الشائعة في ذلك الزمان كانت مستفحلة أيضاً ، ويجب أن نتوغل إلى أبعد من ذلك حتى نصل إلى الجذر .. فأخذت ياقوت الحموي ( ت – 1229 م) الذي أورد في كتابه معجم البلدان ما يلي : ومن عجيب ما تأملته من أمر حمص فساد هوائها وتربتها اللذين يفسدان العقل حتى يضرب بحماقتهم المثل … ! ويكمل : إن أشد الناس على علي رضي الله عنه بصفين مع معاوية كان أهل حمص وأكثرهم تحريضاً عليه وجداً في حربه ، فلما انقضت تلك الحروب ومضى ذلك الزمان صاروا من غلاة الشيعة … ( فقلت لنفسي إنه حموي ويتحامل علينا وهذا واضح)

فذهبت إلى ما قبله بعدة عقود .. إلى ابن جبير وهو محمد ابن أحمد (1145 – 1217 ) الرحالة الأندلسي الذي ولد في بلنسية وتوفي في الإسكندرية وقد أتى إلى الشرق بقصد الحج للتكفير عن شربه الخمر قسراً عندما أجبره ( أبو سعيد بن عبد المؤمن ) صاحب غرناطة الذي دعاه مرة لشرب الخمر بحضرته فامتعض من ذلك ، فلما رآه يمتعض أقسم الحاكم أن يشرب ابن جبير منه قسراً سبع مرات بدل المرة ، فلما فعل ملئت له الكأس بعدها بالذهب سبع مرات ، فاستعمل هذا المال لرحلته هذه التي زار خلالها حمص وكتب ما كتب عن أهلها .

يتكلم ابن جبير عن حمص فيقول : ( وأما داخلها فما شئت بادية شعثاء خلقة الأرجاء ملفقة البناء ، لا إشراق فيها ولا رونق لأسواقها ، كاسدة لها بنفاقها . وما ظنك ببلد حصن الأكراد منه على أميال يسيرة وهو معقل العدو ( كانت أيام الصليبيين ) فهو منه تتراءى ناره، ويحرق إذ يطير شراره ، ويتعهد إذا شاء كل يوم مناره . وسألنا أحد الأشياخ بهذه البلدة هل فيها مارستان على رسم مدن هذه الجهات( مستشفى مجانين ) فقال : وقد أنكر ذلك ( حمص كلها مارستان ) وكفاك شهادة أهلها فيها …فقلت لنفسي هو من أهل السنة وأهل حمص في تلك الفترة من الشيعة ومن المؤكد أنه يتحامل علينا

لهذا السبب ..

إذاً يجب الذهاب إلى أبعد من ذلك … فعدت مئتي عام إلى الوراء فوصلت إلى أبي عبدالله المقدسي الذي توفي 990 م أي منذ ألف عام تقريباً . يقول في كتابه أحسن التقاسيم (ص 156 ) حمص ليس في الشام أكبر منها ، وفيها قلعة متعالية عن البلد ترى من الخارج . أكثر شربهم من ماء المطر ولهم أيضاً نهر . ولما فتحها المسلمون عمدوا إلى الكنيسة فجعلوا نصفها جامعاً عنده بالسوق قبة على رأسها شبه رجل من نحاس واقف على سمكة تديرها الأرياح الأربع وفيه أقاويل لا تصح ، والبلد شديد الاختلال متداع إلى الخراب ، .. والقوم حمقى.. والأسعار بها رخيصة ..

فقلت لنفسي إذا لنرجع مباشرة إلى فترة الفتح العربي الإسلامي ، هل كان هناك أيضاً ما يقال علينا في حينه أم لا ؟ فوجدت وصف الشام في المسعودي ج 2 ص 61 ( وهو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي .. توفي في 346 هج.. ) ، وقد أورد ما سيأتي على لسان أحد الحكماء الذي كان قد أرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وصفاً للشام كان قد طلبه منه ، وقد يكون ذلك قبل زيارته الشهيرة إلى القدس : أي أنه حدث هذا بين أعوام (634 – 643 م ) (أما الشام فسحب وآكام وريح وغمام وغدق وركام ، ترطب الأجسام وتبلد الأحلام وتصفي الألوان ، لا سيما أرض حمص فإنها تحسن الجسم وتصفي

اللون وتبلد الفهم وتنزع غوره وتجفي الطبع وتذهب بماء القريحة وتنضب العقول . . . والشام يا أمير المؤمنين وإن كانت على ما وصفت لك فهي مسرح خصب ووابل سكب كثرت أشجاره واطردت أنهاره وغمرت أعشاره . وبه منازل الأنبياء والقدس المجتبى وفيه حلَّ أشرف خلق الله تعالى الصالحين والمتعبدين .. وجباله مساكن المجتهدين والمنفردين … )

إذاً صار مؤكداً أن الشائعة كانت موجودة عند دخول الإسلام العرب إلى حمص ، أي قبل 1422 عاماً بدلالة ما قاله هذا ( الحكيم ) كما أورد المسعودي ، وأصبح لا بد لنا من الغوص إلى أبعد من هذا التاريخ .إلى ما قبل التاريخ العربي ، أي إلى حمص السريانية أو البيزنطية … ولكن قبل ذلك أريد أن أقف هنا قليلاً ، فقد وجدت أن الجذبة الحمصية العريقة ارتبطت بيوم الأربعاء في هذه الفترة ،،، وللبرهان على ذلك لا بد لنا من تقديم بسيط نسلط فيه الضوء على حالة البلاد في تلك الفترة ، وحالة حمص والأوضاع بشكل عام ، لتتشكل معنا صورة يمكننا أن نحصل من خلالها على بعض

النتائج المفيدة .

عين الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب معاوية بن أبي سفيان قائداً عاماً وحاكماً لسوريا أي بلاد الشام بعد أن مات أخوه يزيد وأبو عبيدة في الطاعون (طاعون عمواس) . فحكم معاوية بلاد الشام بأجناده الأربعة . وهي كما كانت سابقاً في التقسيم الإداري البيزنطي : جند دمشق ، وجند حمص ، وجند الأردن ، وجند فلسطين ( يرجى الانتباه .. قنسرين سلخت عن حمص في عهد يزيد بن معاوية وجعلت جنداً). لقد حكمها كقائد عسكري قبل أن يصبح الخليفة الأموي الأول .

اتبع الوالي معاوية وهو كما عرف عنه أحد دهاة العرب الخمسة[1] ، سياسة مرنة مع رعيته الجديدة الذين كانوا إلى حينه على دين النصرانية ، وقد اختار زوجة له مسيحية يعقوبية اسمها ميسون بنت بحدل ، وهي عربية من عرب الجنوب ، واحتفظ أيضاً ببعض كبار الكتاب والموظفين في ديوانه مثل منصور بن سرجون الذي جعله مديراً لمالية الدولة ( كان منصور بن سرجون أحد المفاوضين الذين انتدبتهم دمشق لمفاوضة المسلمين العرب عندما كانت محاصرة قبل الفتح .. ) ، ولم يوفر جهداً (والكلام عن معاوية) في سبيل إخفاء الحد الفاصل بين المسيحية والإسلام . ونتيجة لهذه السياسة التي

اتبعها معاوية كان المسيحيون في سوريا يعتبرون الدين الجديد مذهباً توحيدياً آخر من المذاهب التي كانت منتشرة آنذاك وهو لا يتناقض مع دينهم… وما زالت المدونات عن المناظرات التي كانت تحصل في تلك الفترة بين المسيحيين والمسلمين (وبحضرة الخليفة في بعض الأحيان ) شاهداً على هذه الأجواء المريحة ، وقد شارك في بعض هذه المناظرات القديس يوحنا الدمشقي الشهير حفيد منصور بن سرجون المذكور سابقاً . ..

إذا هذه هي الأجواء في سوريا وبلاد الشام في تلك الفترة .. وكل الشواهد تشير إلى أن السوريين بمذاهبهم ونحلهم كانوا يكنون لحاكمهم الجديد معاوية كل المحبة والاحترام والإخلاص.

أعاد معاوية تشكيل الجيش من جديد على طريقة عصرية وطعمه بعناصر سورية من مسلمين جدد لم يعرفوا عن الإسلام شيئاً وما أكثر ما قاله المؤرخون الأوائل عن هؤلاء المسلمين الجدد وجهلهم في ما يتعلق بدينهم الجديد ومعلوماتهم المغلوطة عن الصحابة وجهلهم بالخلافات الحاصلة على الخلافة وغيرها من الأمور.. لكن معاوية حقق بواسطة هذا الجيش (غير العقائدي) عدة انتصارات كبيرة على البيزنطيين في البحر والبر . لقد أعده على الوفاء له وطاعته طاعة عمياء فقد كان يتوقع وينتظر يوم الحسم الذي أتى فعلاً في 26 تموز سنة 657 م . إنه يوم صفين حيث اجتمع في سهل صفين جنوب

الرقة الجيشان العراقي بقيادة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جهة والسوري بقيادة الوالي معاوية وأتباعه من جهة أخرى وكان اليوم الأول من صفر وصادف أن كان يوم أربعاء… وفي أول يوم قام به الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالمناورة الحربية كان أيضاً يوم أربعاء (المسعودي ج 2 ص 391 )

وقد أفادنا عما حصل في هذا اليوم المسعودي وابن حزم ( ص 326 و327 ) حين كتبوا في هذا الشأن أن علياً جمع همذان ( وهم قبيلة عربية من مناصريه ) وقال : أنتم درعي ورمحي وما نصرتم إلا الله ولا أحببتم غيره . فأجابه سعيد بن قيس : أحببنا الله وأنت وقاتلنا معك من ليس مثلك ، فارم بنا حيث شئت . فقال الإمام علي إذ ذاك :

           ولو كنت بواباً على باب جنةٍ       لقلت لهمذانَ ادخلي بسلام

ثم قال لحامل لواء همذان : اكفني أهل حمص فإني لم ألق من أحد ما لقيت منهم (يقصد في يوم الأربعاء ) ، فتقدم أهل همذان وشدوا شدة واحدة على أهل حمص وضربوهم ضرباً شديداً متداركاً بالسيوف وعُمُدِ الحديد حتى اضطروهم إلى اللواذ بقبة معاوية ….

إذا ففي يوم الأربعاء استبسل الجيش الحمصي إلى حد الجنون فاضطر الإمام علي أن يقول اكفني أهل حمص ومن منا لم يقرأ عن شدة بأسه وبسالته في القتال .. ؟

ولكن هذا لا يكفي فيما يتعلق بالأربعاء فهناك إشارة أخرى أوضح وأهم .. إذ عندما أتى عامل معاوية عمرو بن العاص إلى حمص بقصد تسيير الجنود إلى صفين مستحثاً أهلها إلى الإسراع إلى ساحة المعركة في صفين وصادف ذلك أن كان يوم أربعاء . قال أحد الحمصيين باسم الجميع بقصد تأجيل المسير يوماً أو يومين ( بإذن الله ننطلق معكم على بركة الله بعد صلاة الجمعة فنحن نحب هذه الصلاة وليس لنا رغبة في أن تفوتنا ) فأجابهم عمرو فوراً وهو أحد الدهاة الخمسة أيضاً : نقيمها لكم اليوم الأربعاء بدلاً من الجمعة … فأين الضرر في ذلك ؟ . فوافق الحمصيون بل واستحسنوا الأمر

وأقاموا صلاة الجمعة في الأربعاء . فقيل عندها عن الحمصيين بأنهم يعيدون في يوم الأربعاء .. .

إن هذا الحدث وغيره من التصرفات الغريبة التي صدرت عن أهل حمص وهم الجند الرئيسيون في صفين قد جعل معاوية يرسل مرة للإمام علي كرم الله وجهه بعد أن هدأت المعارك واستقر كلٌ على ما كسب فقال للمراسل : ( أبلغ علياً أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل ( في إشارة أنهم من غير العرب ) وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء ( في إشارة إلى الحمصيين ) وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها … وأكمل بما لا يصح قوله في هذا المقام وهو وارد لمن يشاء في المسعودي ج3 ص 42 . لقد زادت هذه الرسالة

التي اشتهرت كثيراً فيما بعد من شهرة ما فعله الحمصيون وسمع بما حدث بواسطتها من لم يسمع به من قبل ولبست حمص تهمة الأربعاء وثبتت عليها .

والأربعاء بطبيعة الحال مكروه عن العرب قبل صفين لمجرد أنه أربعاء فالأيام النحسات عند العرب هي كل أربعاء يوافق أربعاً من الشهر مثل أربع خلون وأربع عشرة خلت وأربع عشرة بقيت وأربعة وعشرين وأربعة بقين المسعودي ج2ص206

ومما مر معنا يتضح جلياً إن ما قاله المؤرخون عن حمص من حيث أن أهلها فيهم ما يشبه اللوثة في عقلهم يعود إلى ما قبل الإسلام . ففي يوم فتح حمص وصف أهلها بتبلد العقل . أما الأربعاء فقد علقت بالحمصيين في يوم صفين أو في يوم المسير إليها . إذ صلوا فيها صلاة الجمعة وصادف أن قاتلوا بضراوة بدون عقل وتعقل يوم الأربعاء وسمع برسالة معاوية كل أصم ، فصح القول فينا : أن عيدنا الأربعاء والوقفة يوم الثلاثاء .( إلى هنا لم أقدم شيئاً جديداً كله من أمهات كتب التاريخ المتوفرة لدى الجميع أما ما سيأتي فهو الجديد في الموضوع )

عندما نكمل طريقنا إلى حمص البيزنطية السريانية ونواصل البحث عن جذور قصة الجدبة، وعندما نصل إلى عام 550 م تقريباً ، نجد أنه قدم إلى حمص راهب في الخمسين من عمره وأخذ يأتي بأمور غريبة مضحكة جعلت الناس تشفق عليه وترثي لضعف عقله وتنسب ما تراه فيه من طرق العبادة والتصرفات الغريبة إلى نقص مداركه ، فكان يطوف في الأزقة ، ويرتاد الشوارع وهو يركض ويرقص ويصيح ويقهقه حتى ثبت للجميع أن هذا الراهب شارد العقل ، مأخوذ بخيالات غريبة ، مجذوب الروح .. هذا الراهب أصبح فيما بعد القديس سمعان المتباله ، أو الجاهل ، أو المجذوب في العامية ، أو الدرويش ( مع بعض

التعديل ) في اللغة العربية الإسلامية لاحقاً. إنه المؤسس الأول لطريقة تعبد غريبة جداً عن منطقنا اليوم ألا وهي نكران الذات عن طريق التباله ، وهي إحدى طرق العبادة الغريبة جداً التي انتشرت في سوريا في تلك الفترة مثل العمودية وغيرها ، فكما كان العموديون يلجأون إلى الأعمدة والغرف العالية للانقطاع إلى التعبد وقهر الجسد ، كذلك المتبالهون من بعد سمعان هذا اتبعوا طريقة التباله ، فكانوا يصطنعون البله ويتحملون الإهانات فيذلون أنفسهم ليقضوا على كل كبرياء فيها ، فالكبرياء في نظرهم هي الطريق إلى النار (العموديون ليسوا أقل غرابة في طريقة

عبادتهم ) . ويقول الأب اسبيرو جبور في المتبالهين : (إنهم قوم تجندوا لمحاربة الكبرياء بالتعرض للإهانات. علمياً هذا الامتحان قاس جداً ولكن من طلب العلى سهر الليالي ( العلى هنا تعني السماوات ) . فإن كانت الكبرياء عائقاً دون دخول ملكوت الله فليكن صلبها بكل طريقة ممكنة . فملكوت الله أثمن من أن يدوس الناس الوهم الذي يسميه التافهون روحياً (الكرامة الشخصية) تباً لها من فخ روحي قتال ( الكلام هنا للأب جبور ) (ولله في خلقه شؤون)

ولكن ماذا عن هذا القديس ؟ … ورد في سير القديسين السنكسار ما يلي : ولد القديس سمعان المتباله… ( أي الذي يدعي البله …) في الرها و( توفي في 570 م ) أو 588 م كما يقول الأب لويس شيخو وكان أبواه من ذوي المكانة العالية والغنى الوافر ، وعني الوالدان بتربية ابنهما سمعان ، وثقفاه على الأخلاق العالية وعلماه العلوم العصرية فأضحى من الشبان الذين يشار إليهم بالبنان … وكان أهل وطنه قد عقدوا عليه أكبر الآمال .. ثم ذهب سمعان إلى القدس حاجاً يريد حضور عيد رفع الصليب هناك وتعفير وجهه بتراب الأراضي المقدسة الطاهر . ولما أتم ذلك ازداد إيمانه فتوجه مع

رفيقه يوحنا الذي كان على مثاله ذا ثقافة وفضيلة وتقى، فتجولا في الأراضي المقدسة حيث كان الفادي وأمه ورسله القديسون ، فامتلأ قلباهما تعزية إلهية وشوقاٌ أكبر إلى ممارسة الفضيلة …. ثم قصدا البراري الأردنية حيث النساك يتعبدون في الصحراء ، فزارا الأديار ، وشاهدا بأم العين أنوار القداسة تضيء في تلك القفار ، فراقت لهما هذه الحياة ، فطرقا باب دير القديس جراسيموس فقبلهما رئيس الدير وجعلهما بين المبتدئين ، فبقيا فيه فترة من الزمن ثم دفعهما إلهام إلى حياة أكثر كمالاً وأشد إماتة ، فتركا الدير برضى رئيسه وانتقلا للعيش في القفر والبادية

حياة المتوحدين يقتاتان الحشائش القليلة التي تنبت في تلك الأراضي الكبريتية ويصليان ويشجع أحدهما الآخر، وبقيا على هذه الحال 29 سنة، فوصلا إلى قمة الكمال الرهباني إلى أن (ألهم الله قديسنا سمعان) أن يفارق صديقه يوحنا ويعود إلى حياة الضوضاء، فترك البرية الأردنية وجاء إلى مدينة حمص الجميلة الكبيرة الكثيرة الخيرات والشرور والبركات معاً …. هكذا ورد في سيرة القديسين [السنكسار] في الصفحة المتعلقة ب 21 تموز )

ولما أتى حمص كان قد تكمّل في القداسة والعلوم الروحية فوق ما كان عليه من الثقافة العالية العالمية فخاف على ضياع كل ما اكتسبه بشق النفس في حياة القفر من فضيلة التواضع ( خاف أن يكون محترماً ) ، فأراد ألا يذهب ذلك الكنز الروحي هباء منثوراً أمام إكرام الناس له وإعجابهم بعباداته وصياماته وسعة معارفه ، فتظاهر بالبله وأخذ يتصرف كما أسلفنا ( كأهبل ) مأخوذ العقل .

إلا أن هذا القديس كان محبوباً لخفة روحه وقد قدم الكثير من المعجزات فشفى المرضى وساعد الناس وتنبأ بأمور حصلت فعلاً . وعرّفه الله على يوم مماته ولكن سره كمصطنع للبله لم يكن يعرفه أحد إلا شماس كنيسة حمص الذي كان يخدمه سراً . وكان الصبية والشبان يجتمعون حوله يضحكون لضحكه ويصفقون لحركاته ويجارونه ركضاً وعدواً ويحملونه على الرقص فيرقصون معه ، وعندما كان يلمح مريضاً أو معتوهاً بينهم كان بين الضحك واللعب يلمسه فيشفيه .

واعتاد الناس على حركاته ، فكانوا يعتقدون أن تلك المعجزات إنما كانت بطريق الاتفاق ، أو أن الله كان يمنح المؤمنين بعض النعم بواسطة ذلك الأبله ، وأن جنونه المستعذب الخفيف الظل كان يشفع له لدى العلي ويجعله صاحب كرامة لديه . وهكذا أصبح ذلك القديس العظيم المتواضع المتباله لأجل المسيح نهراً ثانياً لتلك المدينة الزاهرة ، نهر نعم وبركات روحية كما أن العاصي نهر خيرات وبركات أرضية .على حد قول كتاب سيرة القديسين الذي سرد الكثير من عجائبه مثل نبوءته عن زلزال 550 م وعن الطاعون الذي اجتاح المدينة ومعرفته المسبقة بالذين سيموتون في ذلك الوباء

وما سيهدمه الزلزال من مباني وغيرها من العجائب .

وهكذا كان سمعان معروفاً في مدينه حمص بالرجل الأبله ، أما في حياته الخاصة فكان ذلك الناسك الورع المتعبد ، الشديد على نفسه ، الكثير الصلوات ، الدائم الصيام ، وكان يقتات بما يتصدق به الناس عليه من فضلات غذائهم ، وبما يجمعه من الأعشاب في البراري الغناء المحدقة بمدينة حمص الغنية . وكان يسكن كوخاً حقيراً وينام على التبن والقش المجفف . وكان يقضي لياليه في ذلك الكوخ راكعاً يصلي ويتضرع من أجل تلك المدينة حمص ومن أجل البشرية جمعاء . ولما كان الله قد أعلمه بيوم وفاته كما أسلفنا فقد استعد لذلك اليوم بحرارة زائدة ، فعندما دنا أجله دخل مخدعه ،

وتمدد فوق التبن المفروش على الأرض وجمع يديه على صدره وأسلم نفسه الزكية بين يدي خالقه بكل هدوء وسلام (كذلك الكلام لسيرة القديسين ) وما كادت نفسه تطير إلى الأخدار السماوية ، حتى راح الشماس يوحنا يعلن أمام الجميع تلك القداسة المتسترة تحت برقع البله والجنون . فهرع الشعب الحمصي إلى ذلك الكوخ الحقير يتبرك من رفات ذلك القديس المجيد . فأجرى الله بواسطة جسده الطاهر عجائب كثيرة باهرة كانت أسطع دليل على ما لدى سمعان من شفاعة وكرامة . فانتشر صيته وشهد على عجائبه من عاشره ورآه أي أهل حمص فأعلنت قداسته وتقرر 21 تموز عيداً وذكرى لهذا القديس

الحمصي.

لقد لاقت تجربة التزهد هذه عن طريق ادعاء البله رواجاً لفترة من الزمن بعد موت هذا القديس ، وتوسع انتشار هذه الطريقة في العبادة فوصلت إلى قلب أوروبا وإلى روسيا فيما بعد، فنشأ فيها نساك معروفون باسم ( المجانين لأجل المسيح ) (بقيت هذه الطريقة في العبادة حية إلى ما قبل الشيوعية في روسيا .. والله أعلم قد تكون عادت اليوم .. بعد أن صار هناك شي يجنن ) ، (القديس افرام السرياني نفسه تباله أيضاً ليتخلص من الرسامة الكهنوتية ). إذا لا بد أن أهل حمص كانوا من أكثر المعجبين به والمروجين لطريقته ، أليست رفاته هنا في بلدنا يزورها الحجاج من كل حدب وصوب قبل

أن تندرس أو يختفي مكانها ويستتر عن أنظارنا ..؟ ومن سيسأل هؤلاء الزوار القادمين من أطراف العالم عن مآثر هذا القديس غير أهل حمص ممن عايشوه وتبركوا ببركاته واستفادوا من نعمه .. .. ثم ألم يكن الحمصيون هم أول من أعجبوا به وثبتوا قداسته وشهدوا عليها ونشروا صيته في العالم … ولا بد أنهم أيضاً قد دعوا وشجعوا على الاقتداء به ، ولا بد كذلك أنه كان بينهم من بدأ بنفسه فتدروش وتزهد ثم تهابل .. .. فعندما انتشر مبدأ أو طريقة التهابل أو التباله كان للحمصيين الفخر أن يكون مؤسس هذه المدرسة قد اختار مدينتهم لتنطلق دعوته منها ولتحتفظ تربتها برفاته ( يقول

المثل من أحب شيئاً أكثر من ذكره .. والعكس صحيح من كثر ذكره أصبح محبوباً ) لقد أصبحت حمص بفعل هذا القديس عاصمة التباله الروحية كما هي حال بعض المدن التي يتخرج فيها عظيمٌ فتصبح محط أنظار مريديه .

ثم أتى الإسلام وكان لهذه الطريقة في العبادة في ذلك الحين موقع حسن في نفوس الحمصيين ، فلما نشأت الطرق الصوفية ولست هنا بصدد دراسة نشأتها وجدت في حمص مكاناً رحباً وتربة صالحة لها وصار للدراويش وأصحاب الطرق من المسلمين في حمص منزلة خاصة ، ولسنا هنا بحاجة للكثير من البراهين لنقول أن الدروشة والتباله هما طريقتان للعبادة والتقرب من الله عن طريق إذلال النفس والجسد واحدة للمسلمين والأخرى للمسيحيين . وما زال أهل حمص حتى اليوم يكنون للدراويش والمبروكين معزة ومحبة مميزة ، أليست حمص هي ( بلد خطي ) كما يقولون… والحمصي الأصيل يربي أولاده على

احترام الدراويش وعدم العبث معهم والاستهزاء بهم ويجعل في هذا الاحترام قليلاً من الخوف أيضاً . والكثير من الحماصنة حتى اليوم يعتقدون بالكرامات التي يتمتع بها بعض الدراويش فيتأذى من يستهزئ بهم أو يتهكم عليهم . والذي يدخل في عالم المتصوفين وأصحاب الطرق كما يسمونهم اليوم ، يلمس مباشرة مدى احترام وتقدير هؤلاء لمدينة حمص وأهلها، فهم يعتبرونها مركزاً روحياً لهم ، ومدرسة عريقة تخرج فيها الكثير من عظمائهم ، وهي منبع دائم لا ينضب لمريدي طرقهم . وما أكثر ذكر الدراويش في القصص والحكايات الحمصية .

أعود إلى سمعان .. فقبل قدوم هذا القديس إلى حمص لم أجد ما يشير إلى اتهام أهل حمص باللوثة في عقولهم ، أو بالحمق ، أو بالخروج عن المألوف وما شابه ذلك من الاتهامات التي ما زلنا نسمعها إلى يومنا هذا ، لكن من الواضح إن ما وجدته عن القديس سمعان الحمصي ، مؤسس مدرسة التباله هذا ليس بقليل …

والآن أين دفن هذا القديس وأين مقامه .؟ إنه سؤال لن أستطيع الجواب عليه اليوم ولكني قد وجدت بعض المقدمات قد تساعد الباحثين في معرفة مكان مقام هذا الصديق . ..

لقد ورد في أغلب كتب التاريخ العربي أن الخليفة عمر بن عبد العزيز اختار أن يدفن في دير القديس سمعان في حمص ( الطبري .. المسعودي ..ياقوت الحموي .. وغيرهم) ولكن أحداً منهم لم يذكر عن أي سمعان .. هل كان عمودياً أم متبالهاً … قال الفرزدق

أقول لمَّا نعى الناعـون لي عمراً       لقد نعيتم قَوَامَ الحق والديــنِ

قد غَيَّبَ الرَّامِسون اليوم إذ رَمَسوا   بِدير سمعان قِسطاسَ المَوازِينِ

والمعروف أن الخليفة عمر كان قد تزهد في آخر أيامه واعتكف في الدير وكره الحكم وشؤونه .. واشترى من ( الديراني أي صاحب الدير مساحة قبر لمدة سنة وطلب منه أن يدفن فيها ) وما زال الباحثون حتى اليوم يبحثون في أمر مكان هذا الدير ولكنهم لم يكن في ذهنهم غير القديس سمعان العمودي الأكثر شهرةً فيوسعون حدود حمص لتضم إدلب ومعرة النعمان حتى تنطبق الجغرافيا على التاريخ فتصح رواية المؤرخين وتشمل حدود حمص قلعة ودير سمعان العمودي . أو يذكرون ديراً مندثراً على اسم القديس سمعان إلى الشرق من حمص ، أو ديراً بالقرب من دمشق لسمعان العجائبي . ..! ولم يفطن أحد

منهم حتى الآن أن هناك قديساً آخر اسمه سمعان ديره في حمص … ومن أين لهم أن يفطنوا والمؤرخون المسيحيون أيضاً قد غاب عنهم أن هناك قديساً اسمه سمعان المتباله صاحب ومؤسس طريقة عبادة جديدة وغريبة قد دفن في حمص وأصبح له أتباع في العالم وصلوا إلى قلب أوروبا واعترفت وتعترف به الكنائس الشرقية والغربية والشمالية والجنوبية وهو أشهر القديسين الحمصيين في زمانه وقد جعل من حمص محور أنظار أتباعه والقطب الذي تنجذب إليه روحهم .

إن مكان إقامة هذا القديس لا بد أن يكون في ضاحية حمص المدينة بجوار السور بحيث يمكنه أن يذهب لينام فيه كل يوم كما هو واضح من سيرته . ومن الثابت أنه بني له مقاماً هاماً في مكان سكنه حيث دفن ذلك بسبب منزلته الخاصة عند أهالي المدينة . وإن هذا المقام يجب أن يكون قريباً جداً من سور حمص القديم أو ضمنه ولا بد أنه اليوم قد دخل منطقة التنظيم بعد أن توسعت المدينة إذ لا يمكن أن ينام هذا القديس في معرة النعمان أو قرب المشرفة كل يوم وهما الموقعان اللذان كثر القول فيهما أنهما دير سمعان حيث دفن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز .

وبهذه المناسبة وباختصار أرجو أن يلقى موضوع تحديد مكان هذا الدير اهتمام الباحثين في هذا المجال فيتوصلوا إلى ما يفيدنا نحن الحمصيين جميعاً فنهتدي إلى الموقع ونزيد على قائمة المواقع الهامة في مدينتنا موقعاً آخر يفخر به كل الحمصيين مسيحيين كانوا أم مسلمين ففي هذا المقام قرر عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشدي الخامس ( كما يلقب ) قرر أن يدفن وفي ذلك إشارة منه أنه مكان طاهر ويسكنه أطهار وشهادة عمر بألف شهادة ..

ولنعد إلى موضوعنا اليوم ومجال بحثنا الأساسي ولنتخيل معاً مقام هذا القديس الغريب الأطوار ديراً كان أم مزاراً ، صغيراً كان أم كبيراً قبل أن يندثر . لقد كان يعج بالزوار من مريدي طريقة هذا القديس وخصوصاً بعد أن انتشرت طريقة العبادة تلك … ثم أليس من المنطقي أن يعتنق أو يؤمن ويتشدد بالإيمان من كان يروج ويشهد على صحة كرامات هذا القديس من نبوءات وأعمال عظيمة ومعجزات خارقة ، ومن يمكن أن يكون هؤلاء الشهود ..؟ أليسوا هم أبناء حمص بالدرجة الأولى ..؟ وهم من روى للأغراب عن مآثر هذا الصديق فهم من عايشوه ورأوه وشهدوا أعماله… ومن الطبيعي أيضاً أن

يدعي الكثيرون منهم أنه لمسهم أو باركهم أو لمس أجدادهم فاتصلت بهم البركة (كما هي العادة في مثل هذه الظروف) …. وكذلك فإني لا أستغرب أبداً أن يكون لطريقة هذا القديس في معالجة الأمور صدى مهمٌ ومكانٌ رحبٌ في نفوس المؤمنين به . ( وحتى اليوم يلجأ الحمصي إلى الجدبة وقت الإحراج فيقال عند هروبه من الإحراج .. جدبها.. ) .

وعندما يتكلم الآخرون عن الجدبة الحمصية كما تسمى في لغتنا الدارجة ، أليس المقصود بالجدبة هو انجذاب العقل والروح ؟ فإلى ماذا أو إلى من هذا الانجذاب ولماذا لا يكون هذا الانجذاب إلى الله . ثم أليس الانجذاب إلى الله هو غاية كل المتزهدين والدراويش والمتصوفين بكل فئاتهم ، وما العيب في أن تكون حمص قبلة لمن يريدون التزهد والدروشة والانجذاب إلى الله بل لها الفخر كل الفخر أن تكون كذلك فالأخلاق الحميدة لا بد متلازمة مع الدروشة إذ لا يمكن أن تتوافق الدروشة مع الرذائل والموبقات كما لا يمكن للوداعة أن تكون من طباع الذئاب .

وأخيراً وقبل أن أنهي الحديث أعود وأشدد .. هذه هي حمص ونحن سكانها الحمصيون الأصليون المقتنعون بحمصيتنا .. نفتخر بما نتهم به مهما كان أصله وسببه … نفتخر بما نحن عليه الآن وبما كنا عليه في الماضي … وبما قدمناه لمحيطنا ومجتمعنا .. ونفتخر برتبتنا وترتيبنا بين المدن السورية من حيث نسبة المتعلمين والمثقفين فينا.. ونفتخر بطبعنا السمح الذي جعل مدينتا قبلة لكل من يطلب العيش بسلام فنحتضن الغريب ممن ضاقت به حدود وطنه فأراد العيش بيننا … فيصبح كصاحب الدار يقول عندما يستغرب شيئاً (حاجي عاد ) أو عندما يفقد شيئاً غالياً على قلبه يقول ( حبالتاي

) وتنمو فيه روح المحبة فيقول لمن كانوا أضعف منه ( خطي ) ومن ثم وبعد فترة يكون له الشرف أن يصبح حمصياً فيعبر بمقولاته ولهجته عن حمصيته ويرضى بكل سرور أن تلتصق به تهمة الجدبة ويرحب بالتهمة ويفخر بها طالما هو في هذا يحافظ على نسبته إلى حمص   والحمصيين .

ومما تقدم وحتى إشعار آخر تحدده معلومة جديدة تظهرها كتب التاريخ أعتقد إن أساس الجدبة أو التباله في هذه المدينة يعود إلى هذا القديس الرهاوي الذي طبع المدينة بطباعه الغريبة واستمر فعله 1500 سنة . وربما سيستمر 1500 سنة أخرى . أما ديره أو مقامه فقد اختفى عن الأنظار ربما انسجاماً مع أفكار سمعان هذا الداعية لنكران الذات فعندما مر به الشاعر أبو فراس بن أبي الفرج البزاعي ورآه خراباً غمه ذلك فقال :

يا دير سمعان قل لي أين سمعان         وأين بانوك خبرني متى بانوا ؟

أجابني بلسان الحــــال إنَّهم         (كانوا) ويكفيك قولي إنهم كانوا

                                                 معجم البلدان ج 2 ص 517

وفعلاً يكفينا اليوم أن نقول أنهم … كانوا … وبإمكاننا أن نتمم قول الشاعر فنقول : إن الذين ماتوا ودفنوا هنا .. ( كانوا ) .. لكن بوجودنا هنا وبما أورثونا إياه .. (استمروا .. و مازالوا .. )

                                                   وشكرا

   حمص في 6 / 3 / 2001